في منعطفٍ على الطريق بين قريتي إموغلاد وتكاديرت، لا تخط ئُ عين العابرِ مجموعات متفرقة من الوافدين الذين قادهم
.فضولهم إلى هذا السفح ليشاهدوا بأمِّ أعينهم شلالات ظهرت فجأة بعد الزلزال
في منعطفٍ على الطريق بين قريتي إموغلاد وتكاديرت، لا تخط ئُ عين العابرِ مجموعات متفرقة من الوافدين الذين قادهم فضولهم إلى هذا السفح ليشاهدوا بأمِّ أعينهم شلالات ظهرت فجأة بعد الزلزال. ويحيط سكان القرية وزوارها على حدٍّ سواء هذه المياه، والتي يُنظر إليها كأحد تجليات "الرحمة الإلهية"، باهتمام كبير. ويكتفي الوافدون؛ القادمون من عدد من المناطق البعيدة، بالاستمتاع بالمنظر الطبيعي فيما يحرصُ البعض الآخر على شرب الماء أو رشِّ أجسادهم تبركًا به.
تثيرُ هذه العيون المتفجرة بين الصخور فضول القرويين الذين لا يخفونَ فرحتهم بها؛ التي وإن اختلفوا في جرد خصائصها "العجيبة"، إلا أنهم يُجمِعُونَ على أنها بمثابة ربتٍ رباني على قلوبهم، يخفف من مصابهم بعدما أجهد الزلزال الذي دمر البشر والحجر على كلِّ ما يملكون.
ما إن شعرنا بهزة الزلزال، حتى خرجتُ أنا وعائلتي والجيران متوجهين ركضاً نحو أسفل التلّ، بدى الجميع مفزوعينَ" من هول الكارثة، الوجوه مُصفرّة والأيادي على القلوب"، بهذه الكلمات تقاسمت معنا خدوج أسوكة، أولى لحظات نجاتها من الموت، في إعادةٍ لمشهد سُريالي من الرُّعب عاش على أوتاره الصغير والكبير في صراع حقيقي من أجل البقاء.
تسرد خدوج، المنحدرة من دوار تكاديرت التابع لجماعة آسني، خيوط الفاجعة، بعد أسبوعين على وقوعها، بكثير من الصبر والتفاصيل، "قضينا الليلة بأكملها في العراء بالقرب من الوادي الذي جفَّ منذ سنين، لكن ما إن حلّ الصباح حتىّ "تفاجئنا بالمياه تغمرنا من كل مكان، لقد حمدنااللهكثيراً على النعمة، فصَدق من قال وسط كل محنة منحة.
تحوّلت مأساة الموت والدمار الذي حل بالمناطق المتضررة من زلزال الحوز، إلى لحظةِ تجديد وبعث بريق من الأمل في نفوس الأهالي، بعدما جادت الأرض بخيراتها من المياه على سواقي مجموعة من الدواوير الجبلية انبثقت الينابيع المائية والشلالات العذبة من شقوق الأرض وسفوح الجبال، في وقتٍ كان يعيش فيه الإقليم على وقع الجفاف، مُعيدةً السعادة إلى قلوبِ المنكوبين. وتدفقت المياه لتُشكل أنهاراً وبركاً، في توثيق للحظة وصفها السكان بمنحة ربانية من الخالق تفريجاً عنهم في وقت الكُرُبات.
تأتي هذه "السابقة الطبيعية" في ظل إجهاد مائي حاد تعاني منه مجموعة من أقاليم المملكة لعامها السادس على التوالي؛ ومن بينها تلك التي ضربها الزلزال بكل من الحوز وشيشاوة وتارودانت وورزازات وأزيلال، وكان العام الماضي أشدَّ هذه الأعوام الستة وطأة، بحيث اعتُبرَ الأسوءَ في البلاد منذ 40 عاما، ما اضطر الحكومة إلى انتهاج سياسات صارمة لترشيد استهلاك المياه.
هنا في قرية إيموغلاد، التي تبعد عن مدينة مراكش بحوالي 50 كيلومتر، تتعاون النساء على تقديم الوجبات للجميع وتُوزّعُ المهام بينهن بشكل دوري للقيام بأعمال التصبين والطبخ، بينما ينهمكُ الرجال في تشييدِ الخيام، واستقبال المُؤنِ والمساعدات، أمَّا الصغار فيلتفُّون حول بركِ المياه غير آبهينَ لما يدور في الأرجاء؛ في جوٍّ من التضامن والإيخاء كأنه عرسٌ على شرف البقاء على قيد الحياة.
تحكي لنا "الحاجة فاظمة"، وهي سيدة في السبعينيات من عمرها، كيف عاينت تغير نمط حياة الأهالي بالقرية من عوائل تنعمُ بملاذٍ آمن إلى "أسرٍ لاجئة" داخل الخيام، وكيف كانت العيون المتفجرة من قلب الجبال بشارةَ خيرٍ ساعدت في التخفيف من ثقل ما يعيشه المتضررون عقب الزلزال المدمر الذي ضرب منطقة الحوز(جنوب غرب المملكة)، والذي راح ضحيته الآلاف.
لقد تغير كل شيء، بين عشية وضحاها انقطع الماء والكهرباء كأن يوم القيامة قدْ حلّ هنا"، قبل أن تستطرد حديثها" بالقول: "لكن بجودٍ من الله عادت الحياة لتدُبَّ من جديد، بفضل هاته المياه التي بعثث الروح فينا جميعا، نستعملها في"الطهي والغسيل وقضاء معظم حوائجنا لم تُخفِ قسماتُ "الحاجة فاظمة"، انبهارها بما أطلقت عليها ب"المعجزة الربانية"، التي حولت الوديان الجافة إلى أنهارٍ جارية مباشرة بعد الهزة الأرضية التي خلفت القتلى والجرحى والمشردين والثكالى واليتامى كما اختلفت التفسيرات بين المختصين والسكان حيالَ أسباب النزول.
وفي إطار البحث عن تأطيرٍ علمي للظاهرة التي فاجأت الكثير من المواطنين المغاربة، أجرينا حوارًا مع الخبير في هندسة المياه والأستاذ بجامعة القاضي عياض، فيصل عزيز، الذي أكد في هذا الصدد أن الموقع الطبيعي للأمطار والثلوج التي تهطل على مستوى الجبل، هو التواجد داخل الصخور لتخرج في وقت لاحق على شكل عيون وشلالات قبل أن يستطرد حديثه بالقول: "غير أن الطبيعة الصخرية التي تختلف تركيبتها من مكانٍ لآخر تلعب في بعض الأحيان دورا ثانويًا؛ ينعكس على جريان هاته المياه، الأمر الذي يترتب عنه ما يعرف ب"الفرشاة المائية الحبيسة"، بحيث تظلُّ "المياه مخزنةً داخل الصخور دون تماسٍّ مع العالم الخارجي. وبالتالي خَلُصَ عزيز: "فعندما يكون هناك نشاطٌ تكتوني وتحرك صفائحٍ جيولوجية كالزلازل، يقعُ ما يسمى ب"الانقطاع الجيولوجي" أو حدوث مجموعة من الشقوق في الطبقة الصخرية المخزنة للماء؛ بحيث تتغير نتيجة لذلك مسالك انصباب "هاته المياه لتنفجر على شكل شلالات.
وبالحديث عن احتمالية انقطاع هذه الينابيع المائية أو فرصِ استدامتها، أكد الأستاذ الجامعي على وجوب القيام بدراسة ميدانية لمعرفة مصدرها، وما إن خرجت فعلاً من خزان قديم متواجد في جوف الأرض؛ ليتم أثناء العملية تقييمُ وقياس حجمِ هاته المياه وهو الأمر الذي سيساعد في الجزم حيالَ استدامتها من إمكانية اختفائها. وجواباً على سؤالنا بخصوص مدى جودة تلك المياه، قال الأستاذ بجامعة القاضي عياض إنه: "بصفة عامة وبالنظر إلى اشتغالنا على مناطق بجماعة أداسيل ما بين سنة 2009 و 2013 فعادةً ما كانت المياه المتواجدة بالسواقي والأنهار ذات جودة عالية إذ لم يسبق أن تعرضت لأي تلوثٍ إنساني، لكن هذا لا يستثني بعض المناطق التي تعاني من مظاهر التلوث الطبيعي بحكم انبثاق المياه من صخورٍ تحتوي على كميات كبيرة من المعادن الثقيلة أو تلك التي تحمل نسباً مهمة من "الأيونات الكلسية؛ ما يجعلها غير صالحة للشرب على الأقل وفي بعض الحالات حتى للزراعة.
وفي تأتيت للنقاش، حول مشكل الجفاف ونقص الموارد المائية بسبب ضعف الأمطار، لفت الخبير في هندسة المياه خلال حديثه لنا، إلا أن المناطق الجبلية عموما عادت ما تستفيد من الموارد المائية المتركزة في سفح الجبال، والتي تتغذى بدورها من الفرشة المائية النهرية؛ بحيث تُعمَّمُ هذه الصورة بجميع الوديان المتواجدة بالأطلس الكبير.
قبل أن يتابع شارحاً: "إلا أنه في فصل الصيف وبالأخص في العشرِ السنوات الفارطة، شهدت عدةُ قرىً ضمن هذه المناطق انخفاضاً ملحوظًا في صبيب العيون وجريانها أوحتّى اختفاء البعض منها نتيجةَ تراجع التساقطات الثلجية "والمطرية؛ ما تسببَ في عوزٍ مائي لدى ساكنة هاته الدواوير خاصةً منها تلك البعيدة عن السفوح. هذا وتُسابقُ المملكة الزمن لاتخاذ تدابير إضافية للحد من الجفاف واحتواء التداعيات السلبية لتأخر التساقطات المطرية في ظل الجفاف، بعدما صنف تقرير رسمي، معدل هطول الأمطار خلال الموسم الفارط في المملكة الأدنى منذ 41 عام.
ووفق معطيات مُحينة، لدى المجلس الاقتصادي والإجتماعي، فإن حصة الفرد من الماء تراجعت إلى أقل من 650 مترا مكعبا سنويا مقابل 2500 عام 1960 ، ومن المتوقع أن تقل الكمية عن 500 متر مكعب بحلول 2030 ، كما أقرَّت الحكومة، في وقت سابق، برنامجا للتزود بالمياه لأغراض الشرب والري للفترة بين 2020 و 2027 باستثمارات قدرت ب 115 مليار درهم.
مؤطر
ھب المغاربة من كل حدبٍ وصوب، لتقدیم المساعدات والمؤن الغذائیة للمنكوبین، عقب الساعات الأولى من اھتزاز الأرض من تحت أقدام ساكنة جبال الأطلس الكبیر، بعد الزلزال المدمر الذي ضرب منطقة الحوز (جنوب غرب المملكة) و الذي راح ضحيته الآلاف من السكان.
منذ إعلان الإعلام الرسمي بالمملكة، عن حجم الخسائر البشرية والمادية المحتملة للزلزال، توجه المغاربة قاطبةً في قوافل تضامنية محملة بالمواد الغذائية والألبسة للأسر المحتاجة، غیر أن مھدي وأصدقاءه حاولوا التفكیر خارج الصندوق، لتقدیم العون بطریقة أكثر نفعاً، بالنظر إلى ما يحتاجه المنكوبون بشكل استعجالي وضروري، فلقد ارتأت مجموعة من الشباب، التفكیر في حلول لمساعدة ضحایا الفاجعة، بطریقة أكثر استدامة كإقامة محطات دورات المياه.
رجال الدوار، يعملون بشكل جماعي لبناء الخيم للأهالي المتضررة جراء الزلزال.
« بحكم حبنا للمناطق الجبلیة التي عادة ما نقوم بزیارات متتالیة لدواویرھا، وجدنا أنفسنا أمام واجب وطني من الضروري القیام به، » قصد تقدیم ید العون لھؤلاء الناس قدر المستطاع »، بھذه الكلمات قدم مھدي بلفاطمي، 33سنة، المبادرة التي ساھم فیھا رفقة أصدقائه، لتمكین ساكنة احدى القرى المنكوبة بإقلیم أسني، ضواحي مدینة مراكش، من دورات للمیاه، و صنادیق خاصة بالمراحیض .
وتابع مھدي حديثه، « بعد تواصلنا مع ساكنة القریة، اتخذنا القرار بتوفیر المراحیض بتنسیق مع الجهات المعنية، ومن ھنالك كانت الانطلاقة بمبادرة شخصیة لجمع التبرعات المالیة من الأصدقاء والمقربین، كل حسب استطاعته، ھذا بتنسیق مع أعضاء نادي مزكان لركوب الخیل، الذین ساهموا بمبالغ خاصة إلى جانب التطوع بسواعدھم لإقامة ھذه المراحیض »، حيث ما كان لمبادرة مهدي و أصدقاءه أن ترى النور، لولا تأطير منظمة رياكت البريطانية، التي تواصل معها مهدي بغرض تسريع عملية استفادة القرية المنكوبة من هذه الخدمة الأساسية.
ھانة كامرون روس، 21سنة، المتطوعة عن مؤسسة ریاكت الخیریة للاستجابة للطوارئ والأزمات، الناشطة بالمملكة المتحدة وعدد من البلدان الأخرى، قالت بھذا الخصوص، أن الفریق الذي تتواجد ضمنه بمراكش، قام بتقدیم الدعم لمھدي ومتطوعي نادي مزكان لركوب الخیل بحكم تجربة أعضاء ریاكت في المجال، وذلك من أجل تمكینھم من استیعاب عملیة تثبیت المراحیض بالطرق الصحیحة، وتطبیقھا على أرضيات الدواویر الأخرى التي تعرضت للدمار.
وأضافت روس، وھي طالبة في شعبة إدارة الكوارث والنزعة الإنسانیة: » الناس یلجأون ھنا للغابة والھواء الطلق لقضاء حاجتھم، وھذا أمر لا بأس القیام به خلال ھذا الوقت من السنة خاصة في ظل وجود أشعة الشمس، لكن مع اقتراب فصل الخریف والشتاء، سیكون في ذلك خطر على صحة المنكوبین، إذ من الوارد انتشار الأمراض المعدیة بحكم تنقل الحشرات و البكتيريا، بفعل برودة الطقس و التساقطات المطرية ».
وحسب ریتش، م 55سنة، المكلف بجمع التبرعات بالمؤسسة الخیریة، فسیتم تثبیت ما مجموعه خمسة مراحیض، بقریة إیموغلاد التابعة لإقلیم أسني، بمعدل مرحاض لكل 15 أو 20 شخص، كما سیتم النظر في خصوصیات ذوي الاحتیاجات الخاصة خلال مرحلة ثانویة من أجل توفیر صنادیق لقضاء الحاجة تتماشى و وضعیتھم الجسدية.
یقول مھدي، « نحن مجندون من أجل التخفیف من معاناة ھؤلاء الناس، لأن القادم سیكون حتما أسوأ بكثیر، أتفق على أن الدولة تقوم باللازم، لكن علینا كمدنیین التحرك بدورنا فھناك الكثیر للقیام به لإنقاذ متضرري الزلزال ».
على غرار مھدي وأصدقاءه، قامت مریم الزیاني، 22سنة، بمبادرة أخرى من نوع خاص، تتماشى ومعرفتھا وما تلقته بمعهد مهن الصحة والتمريض؛ مریم التي أصولها من نفس القرية، قررت بدورھا التطوع خدمة لساكنة المنطقة، بتقدیمھا لخدمات طبیة لمرضى السكري والمصابین بالأمراض المزمنة والأطفال والنساء الحوامل.
وفي تصریح لنا، قالت المتطوعة « في الأول جلبت من بیتنا في مراكش معدات أولیة كانت في حوزتي خلال أیام التدریب، لكن ما إن حللت بالقریة حتى بدأ كثیرون في التوافد على خیمتي محملین بما لدیھم من أدویة لمساعدة الآخرین، ما دفعني لمشاركة البادرة على منصات التواصل الإجتماعي، حیث تمكنت من الحصول على الدعم من قبل مجموعة من الجمعیات، التي وفرت عددا من اللوازم الطبیة الضروریة لفحص المنكوبین.
مريم توفر الدعم والفحص الطبي لأزید من 50 عائلة، بقریة تاكادیرت وتطمح لتمكین باقي الدواویر من الأدویة الأولیة، حيث تقر أن المسؤولیة الملقاة على عاتقها كخریجة من المعهد ھي كبیرة جدا، لكنھا في نفس الآن تجربة إنسانیة مھمة من شأنھا مساعدة العائلات المنكوبة في ھذه الظرفیة الصعبة.
ولقیت هذه المبادرات صدى واسعا لدى منكوبي الزلزال؛ الذين عبروا عن امتنانھم للحملة وقیم الإيخاء التي أبداھا الشباب وكافة المغاربة قاطبة، خدوج أسوكة، 45سنة، احدى نساء القریة المتضررة من الزلزال، علقت بالقول « لو كان سكان المدینة هم من تضرروا بھذه الھزة الأرضیة ما كنا لنقدر على مساعدتھم بھذا الحجم، فرب ضرة نافعة نیابة عن سكان القریة، نشكر جمیع كل من ساھم في التقلیل من معاناتنا ».
سكينة المهتدي