حدثتنا سيدة المقام وقالت:
كان يا ما كان في سالف العصر والأوان، في البداية كانت الحكاية وفي النهاية تغيرت المعالم والعوالم، وترسمت الحدود شمالا وجنوبا، سأحكي لكن ولكم حكايتي، تاريخي ومصيري ثم معاناتي الكبيرة.
كنت هناك وحدي شاهدة على تقلبات الجو، روح القصبة ومياهها العذبة، موطنا لمن لا موطن له وملجأ لمن لا ملجأ له، أنا الأم الحاضنة لكل من مروا مني، سواء القوافل التجارية أو رحلات السلطان وحتى تقلبات الأقدار وتدخلات الإنسان.
حدثتنا سيدة المقام وقالت:
كان يا ما كان في سالف العصر والأوان، في البداية كانت الحكاية وفي النهاية تغيرت المعالم والعوالم، وترسمت الحدود شمالا وجنوبا، سأحكي لكن ولكم حكايتي، تاريخي ومصيري ثم معاناتي الكبيرة.
كنت هناك وحدي شاهدة على تقلبات الجو، روح القصبة ومياهها العذبة، موطنا لمن لا موطن له وملجأ لمن لا ملجأ له، أنا الأم الحاضنة لكل من مروا مني، سواء القوافل التجارية أو رحلات السلطان وحتى تقلبات الأقدار وتدخلات الإنسان.
لا زلت أذكر دواوير متفرقة من الشجعان الذين واصلوا ضخ الحياة في هذه الأرض الخصبة، إلى أن أصبحت تجمعا يسمّى مديونة، بأمر من السلطان المولى إسماعيل سميت قصبة مديونة، كنت أرضا تشهد لها الأراضي، بجماليتها وشجاعتها، أرض المقاومة في زماني، كانت من أهم محطات العبور سنوات الاستعمار.
أنا التي قاومت توغل المستعمر، شكلت له مصدر رعب بحيث دفع الكثير من أجل أن تطأ رجله أرضي، رغم محاولاته العديدة، كنت على اتفاق مع السماء في إفشالها ننتظر حتى يقترب مني وتهطل السماء بأمطار غزيرة وتفشل خطته.
بعد ذلك نرقص فرحا بما نحقق، لذلك اعتبرني أرضا صعبة المنال، حاول إرضائي بما لذ وطاب، لكن هيهات مع من أنت يا ذاك فأنا مديونة سيدة المقام.
خانني القدر واستوطنني المستعمر البرتغالي والفرنسي، دحرت الأول بعزيمة الأفذاذ، ثم اتخذتني سلطات الاحتلال الثاني نقطة لفرض السيطرة على منطقة الشاوية، غير أن هذا الاستعمار الأخير لم يصمد هو الآخر أمام بزوغ فجر الاستقلال، لتتخذني البحرية الملكية المغربية مركزا لإصلاح وصيانة السيارات، ومكانا لتعليم ضباطها السياقة.
خانني القدر مرة ثانية، لكنها خيانة من ذوي القربى، وخيانة كهذه أشد مضاضة...، خيانة ألقت بتاريخي العريق وحضارتي الضاربة، وذلك عندما قرر المسؤولون أن يحوِّلوني إلى أكبر مطرح عمومي للنفايات في المملكة. نعم هكذا أصبح لدي أيضا تاريخ طويل وعريق في احتضان نفايات البيضاويين حيث يرجع هذا الأمر إلى سنة 1986، عندما أصبحتُ عبارة عن مجموعة من مقالع الأحجار، تم استغلال أطرافي المتناثرة في تلك الفترة كمطرح للنفايات، عندما كانت المنطقة فلاحية بامتياز، في غفلة مني بدأت فؤوس صائدي الأشجار تحصد أرواح فلذات كبدي، كل ورقة أصبحت حجرة.
بدأت حينها أستشعر الاختناق يتسرب إلى النفس، أعلم جيدا أن كل جزء من الأرض في تغير دائم وليس هناك جزء منا ثابت على حال، لكن لم أعلم مدى سرعة هذا التغيير وتطور الإنسان بهذا الشكل.
مع مرور السنوات تزايد الحجم الديمغرافي للساكنة، وتم استقطاب السكان من الدار البيضاء والبوادي المحيطة بها، يتم طرح أزيد من 40 مليون طن من النفايات الصناعية والمنزلية، في كل جنباتي وأطرافي، وأصبح جزء من السكان المجاورين يغوصون في جبل من القذارة والأزبال بشكل يومي، وتحولت إلى مكان لغذاء للمواشي ومكان لرعيها، في فصل الشتاء تتحول الأزبال داخلي بفعل الأمطار إلى عصارة تخترقني وإلى سيلان يفيض على الطريق، متسببة في روائح تبعث على الغثيان للمارة ولسائقي السيارات، في حين ينبعث الدخان الأسود ليلا بسبب المخلفات السامة، ملوثا هواء المنطقة والفرشة المائية.
ولكي تتعرفوا علي أكثر، دعوني أصف لكم ما يقع في مساحة تقدر ب 80 هكتار، تنتصب فيها الأزبال شامخة بعلو الجبال، أستقبل عشرات الأطنان، يوميا، من الأزبال المنزلية القادمة من الجماعات والدواوير المجاورة، بالإضافة إلى مخلفات أوراش البناء والأتربة والنفايات الطبية القادمة من بعض المستشفيات، ناهيك عن حمولات وشاحنات الشركات الخاصة التي تصل بشكل منتظم إلى المكان نفسه وترمي ما في جوفها داخلي ثم ترحل دون حسيب ولا رقيب.
وسط هذه الفوضى، يمكن تخيل أي شيء عدا مطرح منظم بحدود واضحة وتجهيزات وبنايات تحتية منصوص عليها في عقد التدبير المفوض، يعرف مسيريها ما يجري في أروقته ويتحكمون في مداخله ومخارجه.
رغم استغاثتي المتكررة لإيجاد حلول ناجعة حتى لا أتحول الى أداة لتلويث البيئة بسبب أفعال الإنسان غير المحسوبة والمدمرة للطبيعة، إلا أنني أصبحت مُحاطة من كل الجهات تقريبا بالبنايات. قبل الوصول إلي، يظهر من بعيد حائط طويل يسيّج المطرح، واجهته الأمامية عبارة عن كتلة مرتفعة جدا عن سطح الأرض تزينها أشجارا ونباتات يانعة، تُسقى بمياه المطرح المعالجة، وكأنها حديقة عمومية، تدعو المارة لإلقاء نظرة أو للاستراحة، لكنها في الحقيقة جزء من المطرح تخلص منذ فترة من المهمة الموكولة إليه، بعد أن طفح به الكيل، وامتلأ عن آخره، دكَّت نفاياته وعولجت أرضه بأتربة جديدة صالحة للزراعة وقادرة على أن تُنبت أشجارا ونباتات، رغم أني طالما اعتبرت الأمر مجرد تمويه وإخفاء للحقيقة.
لكي أكون صادقة، كنت شاهدة على محاولات عدة للمجتمع المدني الرامية إلى إيجاد حلولا عاجلة ومسؤولة لإغلاقي، كنت ولازلت أكبر المطارح العشوائية في إفريقيا، لقد أصبحت أشكل خطرا بيئيا على الإنسان وعلى الفرشة المائية وعلى تلوث الهواء والتربة، وبالتالي على الصحة العامة لساكنة الدار البيضاء، حيث يتم شم روائحي الكريهة على بعد كيلومترات وصولا إلى مطار محمد الخامس.
كنت أتساءل دائما لماذا يكدسون في أحشائي منتجاتهم الصيدلانية، والصناعية، وحتى مخلفات البناء، فقد استحملتها لما يزيد عن اثنين وثلاثين عامًا داخل أحشائي الصلبة، ولم يساعدوني بأي نظام للإغلاق حتى تسربت السموم إلى المياه والآبار الجوفية.
لست عدمية بالمطلق، طرحت على المسؤولين أفكاري، مساندة بذلك مبادرات المجتمع المدني، ولم أقل بأن أرض سيدة المقام ترفض النفايات رفضا قاطعا، ولكن نبهت إلى فضاءات أخرى هي جزء مني، وطلبت توفيرما يكفي من الموارد المالية لإحداث مصنع للنفايات بأحدث التقنيات العالمية، التي تليق بتجربة بلدي لتدوير وتثمين النفايات المنزلية، وتوعية السكان وتحسيسهم بالمخاطر الناجمة عن عدم فرز نفاياتهم وتوفيرها لتكون جاهزة للتدوير عبر الآلات الحديثة كحل إيكولوجي فعال، يوفر للمدينة ثروة هائلة، ويحمي الساكنة من الأمراض المزمنة.
ولكن رغم أفكاري الكثيرة التي أتقاسمها مع جزء كبير من المجتمع المدني، إلا أنه ينتابني دائما ذلك الشعور بعدم وجود الأذان الصاغية، وفكرة واحدة ظلت قائمة أمام صحتي المتدهورة، هي فكرة الانتحار التي لا تفارق ذهني، ولم تتركني لحالي، اكتأبت ودخلت في دوامة مغلقة بكيت وصرخت لكن لم يسمعني أحد، أقول لهم أرجوكم فأنا بحاجة للمساعدة، لمن أحكي؟ فهم غافلون لا يعقلون.
في غفلة منهم، بعد إهلاكهم لنا، اتفقت مع البحر والسماء لكي ننتفض عليهم في ليلة هادئة جميلة كما كانت عليه الحياة في سابق عهدي، اجتمعنا-أنا والبحر والسماء التي بدأت تمطر-، رويدا رويدا ارتفع مستوى الأمطار، ولك أن تتخيل ماذا حدث فيما بعد. أمطار غزيرة مع الرعد والبرق واهتززت أنا هزات أرضية لم يستطع جهاز قياس درجة الزلازل أخذ قياسها، لأنه لم يبق على الوجود كل ما كان فوقي أصبح داخلي، فاض البحر وغطى كل ما كان واختفينا جميعا.
لازالت روحي تحلق في الكون وكأن الأرض لم يكن لها وجود.