توقفت مياه الأمطار عن الهطول للسنة الرابعة تواليا، ونضبت معظم السدود والآبار والسواقي بالمنطقة . "لقد عادت سنوات الجفاف من جديد"، هكذا عبر والد "بوكدم" وهو ذاهب لبيع آخر ما تبقى له من ماشيته، التي لم يعد يقوى على إطعامها. تحولت حقول"الفصة"( نبتة زراعية تستعمل في إطعام الماشية، وهي من أكثر الزراعات الواحية)، إلى أرض مسطحة يلعب فيها "بوكدم" رفقة باقي الصغار كرة القدم. أثرت سنوات الجفاف، أيضا، على محصول التمور مورد عيشهم الوحيد، فلم يعد لهم أي مورد دخل وعيش، غير ما يرسله أخوه الأكبر الذي هاجر للعمل في أوراش البناء.
“اشتا صبي صبي راه وليداتك في قبي
(...)
[1]و اشتا تاتاتا و سعدات الحراثة”
توقفت مياه الأمطار عن الهطول للسنة الرابعة تواليا، ونضبت معظم السدود والآبار والسواقي بالمنطقة . "لقد عادت سنوات الجفاف من جديد"، هكذا عبر والد "بوكدم" وهو ذاهب لبيع آخر ما تبقى له من ماشيته، التي لم يعد يقوى على إطعامها. تحولت حقول"الفصة"( نبتة زراعية تستعمل في إطعام الماشية، وهي من أكثر الزراعات الواحية)، إلى أرض مسطحة يلعب فيها "بوكدم" رفقة باقي الصغار كرة القدم. أثرت سنوات الجفاف، أيضا، على محصول التمور مورد عيشهم الوحيد، فلم يعد لهم أي مورد دخل وعيش، غير ما يرسله أخوه الأكبر الذي هاجر للعمل في أوراش البناء.
" بو كدم" أو صاحب الأقدام الكبيرة، هكذا يلقبه أقرانه نظرا لضخامة جسمه وطوله الذي يضاعفهم 3 مرات، لا يشتري ملابسه وأحذيته ونعله من السوق المحلية، بقدر ما كان يعمل والده على الذهاب به نحو كل من الخياط والإسكافي من أجل صنع ملابس وأحذيته الخاصة. أما طعامه، فقد كان متميزا، ففطوره عبارة عن "طبگ"( صحن كبير دائري الشكل، مواده الأولية كلها من النخيل ومخلفاتها) من التمر المجفف والمكدس مع بعضه البعض بطريقة تقليدية، فيما كان غذاءه مكونا من خبزتين ذات حجم كبيرة، محشوة بالبصل والجزر والفلفل المحلي الآتي من حقول واحتي الرتب وعرب الصباح، اللتان لم تتأثرا بمخلفات الجفاف بشكل كبير، بفضل حفاظهم على تراثهم السقوي في توزيع المياه، فيما يحتوي عشاءه على طنجرة كبيرة من الحريرة. لقد مكنه نظامه الغذائي هذا، والغني بالخضراوات والأطعمة الواحية الطبيعية من الحفاظ على تفوق بنيته الجسمانية، التي ما فتئت تزداد يوما بعد يوم، ف جعلت منه شخصا متميزا داخل القرية، حتى بلغت أصداء تفوقه الجسماني إلى القرى المجاورة.
يخرج "بوكدم" من بيته، يوميا، كسائر أطفال قريته في الساعات الأولى من الفجر، ويعود بعد صلاة العشاء. يقطع مسافة 20 كلمتر من أجل جلب الماء إلى أسرته من البئر الوحيدة التي بقي بها ماء في المنطقة. يقطع هذه المسافة قبل حلول شروق الشمس مترجلا وبسرعة فائقة، في الوقت الذي كان أقرانه يقطعونها على الحمير، ويصلون حتى وقت الظهيرة. ينتظر دوره في ملئ الماء؛ لا تخلو عملية الانتظار هاته من صراعات حول من له الأسبقية على الآخر، والتي تنتهي بالعِراك بالأيادي من أجل حلها. لقد دخل منذ هذه السن الصغيرة في صراعات أحيانا مع أناس يكبرونه سنا ولكنه يفوقهم حجما، وأدرك منذ هذه اللحظات أن الماء مادة مقدسة تستحق الصراع والموت من أجلها.
كان يقوم بهذه العملية يوما بعد يوم، إذ أنه في اليوم الذي لا يذهب فيه إلى جلب الماء من البئر، يذهب إلى ما كان يعتبر ذات يوم غابة، لجلب حطب الطهي وبعض أنواع العُشب الذي ينمو رغم الجفاف في هاته الأراضي الشبه صحراوية من أجل تقديمها إلى الحمار، الحيوان الوحيد الذي ما زالوا يملكونه. لقد قضى أربع سنوات من عمره وهو على هذه الحالة، قبل أن تعود التساقطات، وعادت معها مياه وادي زيز وغريس وامتلأ السد من جديد، وعادت الساقية والعيون إلى سابق عهدها، وأضحت المجاري المائية تمدهم أخيرا بالماء، وهو ما جعل والده يعتكف مجددا على زراعة أراضيهم الفلاحية.
مع بداية عقده الثاني، أصبح "بوكدم" يرافق والده إلى حقولهم الفلاحية من أجل زراعة وغرس وسقي الخضروات والنخيل الذي ورثوا زراعتها منذ القدم؛ وزراعة الثوم والبصل والبطاطس والطماطم والجزر والبامية، وغيرها من الزراعات التي تحقق لأهل الواحة اكتفاءً ذاتيا من الفواكه والخضروات، بما يشبه ذلك نظام تبادل تقليدي، فالخضروات غير المزروعة في واحة تافيلالت كالطماطم، كانت تأتي من واحة الرتب وعرب الصباح، فيما الجزر يتم تصديره من واحة تافيلالت نحو الواحات القريبة، ويصل أحيانا في حالة كثرة المحصول إلى مناطق أخرى من المغرب.
أصبح "بوكدم" يدخل رفقة والده في عملية الصراع حول مياه الساقية، وأصبح شاهدا على العديد من لحظات الصراع، عندما يخل أحد المزارعين بأعراف توزيع المياه المتعارف عليها محليا. لقد أضحى منذ هذه السن الصغيرة يسهر بالليل على حراسة حصتهم من الماء برفقته معوال يزيح به ما يعرقل وجهة الماء نحو حقلهم من أعلى السفح، حاملا معه "زبارة" (الة حصاد محلية الصنع تستعمل في جني وتنظيف النخيل)، يدافع بها عن حصته من لصوص الماء وعن نفسه. لقد كان والده حريصا على تلقينه قدسية الماء وعدم السماح في أي قطرة ماء من حصتهم في السقي، فالسماح في حق الحصة من الماء، من شأنه أن يلحق العار بالأسرة ومكانتها في القرية، والأسر التي سمحت في هذا الحق، لا يطول بها الحال طويلا في القرية، تهاجر إلى قرية أخرى لا يعرف قصتهم أحد.
عادت الأعراف السائدة في تدبير توزيع هذه المادة المقدسة في هذه المنطقة بعودة سنوات الخير، وفق حصص زمنية تطول أو تقصر تبعا لصبيب الماء الموجود، و بالنظر إلى القرب والبعد من أعلى السفح، بحيث يشرف على احترام هذه الأعراف "شيخ الماء" الذي يتولى تدبير النزاعات، فهو الشاهد الرئيسي في الحكم على من يخالف الأعراف ويسهر على استقرار المنطقة من نشأة أي صراعات حول الماء. لهذا استبشر الفلاحون خيرا بعودة سنوات الخير، باذلين قصارى جهدهم في ممارسة الفلاحة الواحية التي يتقنونها.
يتكلف "بوكدم" بسقي حقول الأسرة، التي تقع أسفل السفح، حين تكون حصتهم من الماء، بينما يقوم الأب بدور الحارس على تحصين مرور الماء، حاملا على كتفيه الفأس تأهبا لمحاصرة انجراف الماء إلى ضيعة آخرى، مقتديا طريق الساقية ذهابا وإيابا إلى أعلى السفح من أجل ضمان وصول حصتهم من الماء كاملة غير منقوصة. لكن ذات يوم ودون سابق إنذار، فطن إلى نقصان الماء، فأخذه الشك إلى أعلى السفح للتأكد من المشكلة، وفور وصوله فوجئ بأحد المزارعين يقوم بتضييق الخناق على خط الماء الذي يوصل السقي إلى الضيعة ويحولها نحو ضيعاته، فقام باالإنقضاض عليه والتشاجر معه بالأيدي، انتهى العراك باستعمال الآلات الحادة "الزبارات"، فكانت النهاية مأساوية، أودت بموت والده، وهروب القاتل رفقة أسرته إلى قرية أخرى بعيدة.
كانت الكلمات الأخيرة للأب نحو الإبن بعد أن تيقن من موته الحتمي، مخالفة تماما لما لقنه إياه منذ أن أصبح يرافقه إلى ضيعاتهم الفلاحية وصراعهم مع المزارعين حول مياه الساقية، وبالعار الذي يلحق بمن يسمح في حقه في الماء. لعل لحظات الموت الأخيرة من موت الأب جعلته رحيما عطوفا، فقد كانت وصية الأب هو عدم السعي للانتقام، وبأن عليه أن يوفر طاقته وقوته لعدو كبير أصبح يحط رحاله بالمنطقة. لم يستوعب الإبن هذه الرسالة جيدا في تلك اللحظة، فحادث موت والده، لم يكن بردا وسلاما على قلبه؛ وجعله يحمل حقدا وكرها على كل أهل القرية، لذا فكر في الانتقام وحمل هذه المسؤولية على عاتقه، وقطع وعدا مع نفسه بأن يثأر لموت أبيه. لكن قبل التفكير في الانتقام والثأر، وجد "بوكدم" أمامه مسؤولية عظيمة في تأمين حاجيات أسرته وإدارة أمورها كما كان يفعل أبوه سلفا. لهذا سلك "بوكدم" طريق أبيه في السهر على تلبيات حاجيات أسرته والمحافظة على الإرث الزراعي الذي تركه والده، بعد أن تعلم منه الأساسيات الضرورية للزراعة الواحية المعيشية، من زراعة النخيل وسقيها والعناية بها، إلى زراعة البصل والجزر والبطاطس والبطيخ الأحمر المحلي والتمور وغيرها من الفواكه والخضروات... التي يقوم ببيعها في السوق المحلية، هذه السوق التي تضم جميع أنواع الخضروات والفواكه المستخرجة والمنتجة في الواحة، والتي تكفي لسد حاجيات سكان الواحة.
لكن شكل الجفاف دائما تهديدا حقيقيا ووحشا مخيفا لسكان الواحة، فبعد سنوات الخير الناعمة، ضرب الجفاف أراضي الواحة من جديد، بعد أن أمسكت السماء مطرها الذي يُعد منبعا حيا لأراضي الواحة، التي تعتمد في غالبيتها على السقي البوري، لذلك بدأت معاناة الساكنة وصراعها في التعامل مع المياه السطحية والجوفية من جديد. وأمام ندرة هذه المادة المقدسة، أصبح المزارعون يخالفون أعراف توزيع الماء، ولم يعد "بوكدم" بدوره يحترم توزيع حصص الماء كما كان متعارف عليه من قبل. إن الحقد الدفين لديه تجاه كل مزارعي قريته، جعله يحتكر الماء لصالحه دون مراعاة الشروط الخاصة بتوزيع الماء، فأصبح يسقي ضيعاته كلما وجد ماء الساقية قريبا منه، وأضحى معظم المزارعين يخشون الدخول في أي صراعات معه حول الماء، وأصبحت الفوضى والقوة هي المحدد في الاستفادة من مياه الساقية، فالقوي يستحوذ على الضعيف، فاختلت بذلك أعراف توزيع المياه، ولم يعد يستفيد منها كل فلاحي القرية الضعفاء غير القادرين على القتال، فتركوا ضيعاتهم الفلاحية أو باعوها وهاجروا القرية.
ومع ظهور مزارعين جدد بالواحة واحتلالهم مساحات زراعية كبيرة وحديثة، هي في معظمها أراضي سلالية لقبائل المنطقة، تم تفويت ملكية استغلالها للزراعة الأحادية لهؤلاء المزارعين لزراعة تمور المجهول والبطيخ الأحمر الذي يصدر في غالبه نحو السوق الخارجية. لم يعد يقوى "بوكدم" والفلاحين الصغار على منافسة هذه المنتجات المطعمة بالأسمدة الكيماوية في السوق المحلية، وأصبحوا يجدون صعوبة في الحصول على المياه، سواء منها السطحية أو الجوفية التي يحتاجونها في زراعتهم، حيث استحوذ مالكو هذه الضيعات الكبيرة على مصادر المياه، بحفرهم للآبار بواسطة آليات حديثة "الصوندا" يتجاوز عمقها 300 متر، متصلة مباشرة بعمق العيون المائية التي لا تتجدد، وسيطروا على مياه السدود و حولوا مسار مياه السواقي نحو ضيعتهم الحديثة، لم يعد الجفاف بفعل قلة التساقطات فقط، بل أيضا بفعل التدخل البشري للمحاربين الجدد.
أدرك منذ هذه اللحظة أن صراعه حول الماء لم يبق منحصرا فقط مع المزارعين الصغار من أبناء قريته، بل دخل محارب غريب لساحة القتال حول الماء، هم المزارعون الكبار أصحاب ضيعات النخيل والبطيخ الأحمر، الذين يستحوذون على الحصة الأكبر من مجمل مياه الواحة. في هاته اللحظة تذكر وصية والده في اللحظات الأخيرة لوفاته، وعرف ما كان يقصده بوصيته حول ضرورة توفير جهد الانتقام. لذلك عمل على التصالح مع مزارعي قريته وتعبئتهم من أجل مواجهة المحاربين الجدد أصحاب النفوذ، لقد كان يعلم أنه لن يقدر على المواجهة لوحده، لذا تحالف مع مجمل المزارعين الصغار في القرى المجاورة المتضررين بدورهم من هذا الواقع الجديد. لم تكن مهمة إقناعهم صعبة، فصدى قوته وبطولته كانت تصل معظم القرى المجاورة منذ كان في السن الرابعة من عمره، فلا تخلو أحاديثهم من نسج قصص ساخرة وأحيانا أسطورية حول "بوكدم"، فقد كانت ضخامة جسمه المتميزة ونظامه الغذائي الفريد، مادة دسمة للتسلية. لكن بعد أن قام بزيارة معظم هذه القرى واكتشفوا أمام أعينهم ضخامة "بوكدم" أمنوا بقوته وقوتهم في مواجهة المحاربين الجدد، واستعادة حقوقهم المائية، خاصة وأنهم لم يعد لهم ما يخسرونه، بعد إضعاف نشاطهم الفلاحي. لقد أصبح "بوكدم" زعيما وقائدا لهذا الغضب، كيف لا، وهو منذ صغره وهو في صراعات دائمة من أجل جلب الماء إلى أسرته، وبعد مقتل أبيه أمام أعينه وهو في يصارع حول مياه الساقية. لكن هذه المرة أدرك أن تأمين حصته من الماء، رهين بانتظام كل مزارعي القرية والقرى المجاورة من أجل مواجهة هذا العدو والمحارب الجديد الغريب صاحب النفوذ.
أضحى الغضب مسيطرا على قلوب المزارعين الصغار، وبدأوا يفكرون مليا في محاربة هذا الجائح الغريب، ويخططون لخوض الحرب ضده بعدما استولى على مصادر مياه الواحة كلها، وبعدما كانت الزراعة مصدر قوتهم، انقطع الحبل الوصيل بينها وبينهم، فبدأوا يفكرون برمي فتيل نار يوقظ الحرب بينهم. لهذا تحالف "بوكدم" مع مزارعي قريته والقرى المجاورة، معتقدين أن اتحادهم يشكل قوة ضاربة في مواجهة هذا الجائر. كانت اللحظة التي أشعلت فتيل الحرب، هو الحريق الذي أتى على الأخضر واليابس من مزارعهم ومساكنهم، فأصبحوا مشردين بلا عمل ومأوى، بينما المزارع الكبرى لم يمسها مكروه. اختلفت تصوراتهم لسبب الحريق، بين من اعتبره قدر إلهي، وغضب من الطبيعة، فيما الغالبية العظمى ترى أن المحاربين الجدد هم من أشعلوا النار في غابتهم، نظرا لدخولهم في صراعات معهم حول الماء وأيضا حول سوق بيع التمور، فالحريق وقع قبيل بداية موسم جني التمور، التي تُعتبر مصدر عيشهم الأساسي على طول السنة، نظرا لأن محاصيل الفلاحين الصغار، تستحوذ على السوق منذ بدايته وتحظى بإقبال كبير وتخضع فيه أسعار التمور لمنطق تحديد الأسعار بناء على كثرة أو نذرة المحصول، وهو ما يتنافى مع ما يرغب فيه أصحاب الضيعات الكبرى، الذين يريدون تسويق هذه التمور للخارج بأسعار مرتفعة.
اشتعل الحريق في ساعة متأخرة من الليل، ولم يقوَ السكان على إطفائه، كانت النار تنتقل من ضيعة زراعية إلى أخرى ومن منزل إلى آخر، تصادف ذلك مع رياح قوية جعلت النيران تنتقل بين كل قرى الواحات القريبة من بعضها البعض.
صورة تقريبية 1: الحريق الذي نشب في الواحة القديمة.
نجح "بوكدم" في تحويل غضب الفلاحين إلى هجوم منظم على الضيعات الكبرى، حاملين معهم أسلحة تقليدية من نوع "زبارات". كان الغرض من هذا الهجوم هو الاستحواذ على هذه الأراضي السلالية القبلية التي سلمت بطرق غير مشروعة و غير قانونية، وإعادة إعمارها وغرسها بالزراعات الواحية، خاصة وأنها أراضي قريبة من مصادر المياه السطحية، وبها مياه جوفية، كانت إحدى مطامعهم المركزية حتى قبل دخول المحاربين الجدد. لم تسلم محاولة هجومهم هذه من ردة فعل، فقد استعان أصحاب النفوذ بجيش من المرتزقة من أجل حمايتهم وحماية ضيعتهم، حاملين معهم أسلحتهم الحديثة "بندقيات الصيد" ، و مؤازرين بدعم خفي من القوات النظامية.
اعتمد "بوكدم" رفقة محاربيه على خطة محكمة، تقضي في البداية على سرقة محصول الضيعات الفلاحية الكبيرة تم بيعها تمهيدا لإضعاف الفلاحيين الغرباء اقتصاديا قبل طردهم والسيطرة على هذه الأراضي. اعتمدوا على حرب العصابات، ساعدتهم في ذلك معرفتهم الدقيقة بجغرافيا وحيثيات المنطقة. وبعد سلسلة من المواجهات الضارية التي استمرت لعدة سنوات بين صغار الفلاحين وجيش المرتزقة، استرشد المزارعون الكبار إلى ضرورة نصب كمين محكم لـ"بوكدم" زعيم هذه الحرب وقتله، ساعدتهم في ذلك المعلومات التي كان يمدهم بها الجواسيس المدسوسة وسط جيش "بوكدم".
لم يقدر المحاربون الجدد والغرباء عن الواحة برفقة جيش مرتزقتهم على مجاراة الحرب في هذه الظروف المناخية القاسية، حيث الجو حار صيفا والبرد قارس شتاء والرياح عاتية خلال فصل الربيع. فعملوا على تقوية صفهم بمحاربين آخرين، وهو ما مكنهم من القضاء على معظم جيش "بوكدم"، وفرار وهجرة ما تبقى، أما "بوكدم" فلم يستسلم للأمر الواقع، فقد استمر في اتخاذ سرقة محصول الضيعات الزراعية الكبيرة مصدرا لعيشه. وأمام عجز المحاربين الجدد على مواجهته وتوقيفه، فطنوا إلى عمل خطة ذكية، تقضي بالتضحية بمحصول موسم فلاحي، بتطعيم البطيخ الأحمر وتمور المجهول بأسمدة سامة، التي أودت بحياة "بوكدم" في الأخير. خلَّف موته موجة فرح لدى أصحاب الضيعات الكبيرة، لكن فرحهم لم يدم طويلا، بعد عودة مواسم الجفاف من جديد، واستنزافهم لمياه الواحة الجوفية والسطحية، بفعل النمط السقوي والزراعي المعتمد.
أصبحت ضيعات النخيل والبطيخ الأحمر مهجورة، كأنها لم تكن يوما، انتهى بذلك النظام الزراعي الحديث في الواحات، بعد القضاء على النظام الزراعي القديم، فأعلنت بذلك نهاية الواحة النظام الإيكولوجي الفريد الذي ميز المغرب والجنوب الشرقي، أضحت كل أراضي الواحات صحاري كبيرة ممتدة بعد تكاثر ظاهرة زحف الرمال، حيث لم يعد هنالك أي نظام زراعي وبشري يوقفها.
الصورة التقريبية 2: الضيعات الفلاحية الحديثة بعد انتهاء الحرب واستنزاف الماء.
الصورة التقريبية3: تصحر الواحات بفعل ظاهرة زحف الرمال بعد انتهاء النظام الواحي.
[1] أغنية تراثية كان يرددها الأطفال في مختلف مناطق المغرب في فصل الشتاء