أفرنة كوشة الجير بصنهاجة إقليم صفرو ....... هواء ملوث وحرائق لا تنتهي

انطلقنا من مدينة فاس صوب مدينة صفرو، أو كما يلقبها زوارها "حديقة المغرب"، بفضل غطائها النباتي الكثيف و المتنوع؛ هي احدى أقدم المدن المغربية نشأةً، تقع على بعد 28 كيلومتر جنوب شرق مدينة انطلاقنا. ما إن ولجنا بوابة المدينة حتى استقبلتنا الطبيعة الخلابة والمناظر الطبيعية والمياه العذبة، والشلالات والجبال الأطلسية التي تشكل منظراً خلاباً يسرّ الناظرين.

وقت القراءة: %count دقائق
Sefrou

انطلقنا من مدينة فاس صوب مدينة صفرو، أو كما يلقبها زوارها "حديقة المغرب"، بفضل غطائها النباتي الكثيف و المتنوع؛ هي احدى أقدم المدن المغربية نشأةً، تقع على بعد 28 كيلومتر جنوب شرق مدينة انطلاقنا. ما إن ولجنا بوابة المدينة حتى استقبلتنا الطبيعة الخلابة والمناظر الطبيعية والمياه العذبة، والشلالات والجبال الأطلسية التي تشكل منظراً خلاباً يسرّ الناظرين.

تشتهر هذه المدينة بكونها عاصمة فاكهة الكرز أو "حب الملوك"، حيث تشهد بداية كل فصل صيف تنظيم مهرجان سنوي، احتفاءً بانطلاق موسم جني هذه الفاكهة؛ هو أقدم المهرجانات المغربية، تأسس  سنة 1919، وقد صنفته منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم «اليونسكو»، تراثا ثقافيا لا ماديا للإنسانية، و ذلك خلال أشغال الدورة السابعة لاجتماع اللجنة الحكومية المكلفة بالمحافظة على التراث اللامادي، المنعقدة ما بين 3 و 7 دجنبر 2012 بالعاصمة الفرنسية.

يمتد إقليم صفرو على مساحة تقدر بحوالي 4008 كلم² [1]. حيث تقع أجزاء مهمة منه على سهل سايس وعلى السفوح الشمالية والغربية من سلسلة جبال الأطلس المتوسط، ويعبره وادي أجاي. يعرف تنوعا في التضاريس وغنى في الموارد المائية الغابوية، ما يجعل منه إقليما فلاحيا بامتياز.

صنهاجة منطقة الرغيف الأبيض

إلى جانب كل ما ذكرناه من مميزات وثروات طبيعية تطبع إقليم صفرو هناك وجه اخر، فعلى بعد 5 كيلومترات، من مدينة صفرو، مركز الإقليم، توجد منطقة صنهاجة، تتبع إداريا للجماعة القروية سيدي يوسف بن أحمد، و تضم حوالي 11.292 نسمة حسب احصاء سبتمبر 2004، حيث تنتشر العديد من أفرنة صناعة الجير أو ما يطلق عليه "الكوشة"،  جعلت المنطقة تكتسي شهرة واسعة في إنتاج وتصدير مادة الجير في المغرب، حيث تشكل صناعة هذه المادة الحيوية مصدر رزق اغلبية ساكنة صنهاجة والدواوير المحيطة بها بجماعة سيدي يوسف بن أحمد.

في جولتنا داخل منطقة صنهاجة لاحظنا أن "الكوشة"، هي عبارة عن فرن تقليدي  بالحجارة منشأة على مساحة تبلغ 10 متر مربع، تُملأً بالحجارة والخشب الذي يستخدم  كوقود يطمر الكل بإحكام بواسطة العمال ويتم إغلاق الفرن ليطهو الحجر لمدة قد تصل إلى ستة أيام متواصلة، والملاحظ أيضا أن هذه الحرفة تغيب فيها شروط الأمن الصناعي و وسائل حماية العمال من الأضرار التي قد تنجم عن مزاولتها.

Image removed.  Image removed.يحكي لنا مهدي  "اسم مستعار"  30 سنة،  بمرارة شديدة وهو يلف حول وجهه قطعة قماش حمراء أصبح لونها ابيض من كترة تطاير غبار الجير،  وهو عامل بإحدى أفرنة الكوشة بمنطقة صنهاجة، عن الظروف المزرية التي يعمل فيها هو وباقي العمال، حيث يقول "أشتغل هنا منذ 8 سنوات هذه الحرفة ورثناها عن آبائنا وأجدادنا و ليس لدينا أي بديل عنها رغم كل المخاطر التي تحيق بها، نلقي بأجسادنا مباشرة نحو النار، و ليس لدينا وسائل حماية تقينا من انبعاثات الأتربة الضارة ودخان مثل الكمامات ولا قفازات ولا خوذات تحمي رؤوسنا من انهيارات الصخور المحتملة.

وتابع المتحدث قوله بنبرة حزينة، "نحن هنا نضحي بأرواحنا مقابل ‘زوج ريالات’ 100 درهم لليوم الكامل لا تكفينا لأي شيء وسط ما نعيشه من غلاء الأسعار " ويضيف قائلا: كنخدمو في النوار إلا وقعات لينا شي حادثة ماكينش لي يعقل عليك هنا الله يرحمك  " .

غير بعيد عن مهدي، كان لنا تواصل أيضا مع محمد رجل خمسيني وهو العامل السابق بإحدى كوشات الجير بصنهاجة، قضى أكثر من 20 سنة في أفرنة الجير قبل أن يستقر به الحال إلى تغيير مهنته وتوجهه صوب مدينة فاس للاشتغال كعساس بإحدى العمارات السكنية يروي لنا محمد أن هذه المهنة أدت إلى تضرره صحيا " بسبب هذه المهنة أصبحت أعاني من حساسية في العيون والتهابات الجلد "الإيكزيما" فنصحني الطبيب بترك هذه الحرفة.

ونحن نتجول بمنطقة صنهاجة دوار "بوزنون" رصدنا وجود كوشات قريبة جدا من مؤسسة تعليمية بالمنطقة، تواصلنا مع فاطمة الزهراء وهي تلميذة بإعدادية ابن زيدون بدوار بوزنون تحكي لينا، عن معاناتها هي وباقي تلاميذ المؤسسة حيث أسرت لنا " الكوشة بهذه المنطقة هي كارثة بيئية بمعنى الكلمة، ونحن نعاني معاناة شديدة من الدخان الصاعد من فوهاتها الكوشة والذي يستمر إلى أيام طويلة بدون توقف، أنا أختنق من هذا الدخان الذي يتسلل إلى حجرة الدرس وساحة الاستراحة، و أصبت جراءه بحساسية في عيوني التي دائما ما تدمع، بالإضافة إلى اصابتي بنوبات سعال متكررة في القسم، حيث تضيف فاطمة الزهراء أنه "سبق وأن قدمت المؤسسة شكوى لدى السلطات المختصة، من أجل رفع هذه المعاناة عن المتضررين، وقد تم التفاعل مع هذه الشكاية، حيث تم هدم بعض الكوشات القريبة من المؤسسة، لكن سرعان ما عادت  الأمور إلى سابق عهدها.

حملنا هذه المعطيات إلى أحمد المرتاجي، رئيس تعاونية الجير، الذي صرح لنا ان السلطات  كانت قد هدمت مجموعة من أفرنة الجير القريبة من التجمعات السكنية و القريبة للمؤسسة التعليمية، وعيا منها بما تسببه هذه الأفرنة من تلوث بيئي و ضرر على الصحة العامة، حتى أنها تواصلت مع التعاونية من أجل إيجاد حلول تراعي كلا الطرفين، حيث وعدت الجماعة بتعويض أصحاب هاته الأفرنة  ونقلهم إلى مكان اخر ومنحهم بقع أرضية بديلة بعيدة عن السكان من أجل تجهيز أفرنة عصرية صديقة للبيئة، لكن، يقول المرتاجي وهو مستاء من الوضعية المزرية التي يعشيها هذا القطاع، ان الجماعة نكثت بوعدها ولم تقم الى حد الأن بأي مجهود أو تواصل معنا، بهذا الخصوص، والأكثر من ذلك، فقد تضاعف اليوم  عدد الكوشات بالمنطقة، ويقول المرتاجي، "نحن هدمت لنا مصادر رزقنا واخرين تركتهم يقومون ببناء كوشات رغم انهم أشخاص دخلاء عن المهنة ولا علاقة لهم بها".

و حول المواد المستعملة كوقود لهذه الأفرنة، يقول أحمد المرتاجي، الخشب هو الوقود الأساسي، حيث تحتاج كل كوشة تقريبا ما بين 40 حتى 90 طن من خشب الأرز، فيما أشار أن "السلطات كانت قد اقترحت استعمال مادة الفيتور" كمادة بديلة عن الخشب ولا تشكل تهديدا على البيئة، لكن بعد تضاعف عدد الكوشات، وتجاهل السلطات لهذا التزايد، عادت الأمور إلى ما كانت عليه وزيادة، محذرا من خطورة استخدام المواد المطاطية والبلاستيكية، التي بدأت تبرز مؤخرا.

اتجهنا نحو استيقاء، وجهة نظر المجتمع المدني بصفرو، حول هذه المعضلة البيئية، حيث صرح لنا حميد صالحي، رئيس جمعية التنوير الفلاحي بصفرو، بأن "كوشة الجير" بمنطقة صنهاجة قنبلة بيئية موقوتة، داخل إقليم صفرو، نظرا لما تفرزه من السموم المنبعثة من دخانها الذي يشكل كتل سوداء في الهواء بسبب الإفراط في استهلاك الوقود، وهو ما يساهم في تفاقم أزمة الاحتباس الحراري؛ مضيفا أنه" معلوم أن هذه الكوشات تستهلك الأطنان من خشب الأرز كوقود لها وهنا نقف عند إشكالية كبرى تتجلى في القضاء على كمية كبيرة من أشجار الأرز في جبال الأطلس ما يؤثر سلبا على التوازن البيئي في المنطقة" .

ندد الائتلاف المحلي من أجل البيئة والتنمية المستدامة، بمدينة صفرو، مرات عديدة في بيانات أصدرتها ضد الانتهاكات البيئية التي تسببها كوشة الجير بالمنطقة، حيث قال رئيس الإئتلاف، عبد الحق غاندي، " أنه منذ تأسيس الإئتلاف سنة 2018 ونحن نقوم بنداءات عاجلة في هذه القضية البيئية التي تخص كوشة الجير المحيطة بمدينة صفرو، وتسبب تلوثا كثيفا للبيئة،" مناشدا "السلطات الاقليمية بإيجاد حلول عملية تحافظ على هاته الصناعة وعلى مناصب الشغل التي توفرها بإقامة مجمع صناعي حديث وصديق للبيئة يعمل بالطاقة المتجددة لإنتاج الجير.

صنهاجة جماعة سيدي يوسف بن أحمد عاصمة الجير والضباب الدخاني السام التي تخنق أبنائها

مصطفى، شاب في مقتبل العمر، أحد سكان دوار الشعاب بمركز صنهاجة جماعة سيدي يوسف بن أحمدـ تواصلنا معه بسبب ما يعانيه دوار الشعاب جراء أفرنة الجير التي توجد أمام البيوت السكنية.

 يقف مصطفى في الصباح الباكر، خلف شرفة منزله قصد التمتع بأخذ استراحة صباحية لعله يستنشق نسمات الهواء العليل قبل بدأ يومه، إلا أن الدخان السام المتصاعد في الهواء لأفرنة الجير الموجودة مباشرة أمام منزله يعكر صفو اللحظة.

حال مصطفى لا يختلف كثيرا عن حال باقي سكان دوار الشعاب المتشحة بالضباب الأسود، يقول المتحدث، "نحن ساكنة منطقة الشعاب تحاصرنا هذه الكارثة البيئية في كل وقت وحين، استنشاق هواء نقي خالي من التلوث أصبح أقصى متمنياتنا، لم نعد نقوى على فتح نوافذ بيوتنا ولا أبوابها، نظل محاصرين، معتكفين، داخل البيت ننتظر توقف عمل الكوشات الذي يستمر إلى أيام طويلة، مضيفا"بالرغم من إغلاقنا نوافذ البيوت والأبواب إلا أن الدخان السام يتسلل إلى البيت عبر منافذ أخرى".

يأخذنا مصطفى صوب مطبخ البيت ويشاركنا حالته بسبب الانبعاث الدخان، حيث نجد جميع أواني المطبخ يكسوها السواد، أيضا أطلعنا على ملابسه، التي لاحظنا اتسخاهها بالسواد ورائحة الحريق السامة تفوح منه ويقول، أنظري إلى الملابس كيف أصبحت متشحة بلون بالدخان، بيوتنا لم تعد كباقي البيوت، كل منطقة الشعاب تكتسي الرداء الأسود، حتى أننا دأبنا على إعادة صباغة واجهات بيوتنا بشكل منتظم بعد اتسخاهها بالسواد.

"دوار الدخان السام" أصبح لقب القرية التابعة لجماعة سيدي يوسف بن أحمد، بعد أن غزتها كوشات الجير، التي لوثت هوائها بالدخان السام الضار بصحة الإنسان والبيئة، ليجد السكان أنفسهم في مواجهة أمراض تنفسية وحساسية تنغص عليهم حياتهم وتهدد صحتهم، حيث يصرح لنا مصطفى ومعه عدد من ساكنة المنطقة، أنهم يشتكون هم وعائلاتهم من مشاكل صحية، يقول محمد، نعاني هنا جميعا من أمراض تنفسية حادة "الربو و التهاب العيون والأنف والحنجرة و حكة الجلد، والأطفال دائما ما تجدهم مصابين ب إفرازات العين "العماص" الذي يغلق العيون.

سألنا مصطفى، عن قيامهم بخطوات لوقف استمرار هذا الوضع البيئي الكارثي، فقال أنهم قاموا مرات عديدة، برفع شكايات إلى السلطات المختصة، من أجل التدخل السريع وإنقاذهم من هذه الكارثة البيئية، إلا أن التعاطي السلبي للجهات المسؤولة، تجاه هذه الشكايات جعلهم  إلى حد الآن يدفعون ثمن من أرواحهم و صحتهم.

وحتى الآن، تبدو الحلقة مفرغة، والكل يسبح في فلك، حيث يتفق الجميع على وصف هذه المشكلة البيئية الكارثية، وتحديد مدى خطورتها، و الجميع لا يريد للحل أن يرسي، ويتفق ضمنيا على ابقاء الوضع على ماهو عليه، وكل يوم يمر بمركز صنهاجة جماعة سيدي يوسف بن أحمد، يرفع حجم الكارثة البيئية، و يؤجل الأزمة، بينما تدفع الساكنة والبيئة ثمن هذا الوضع.

شيماء البورقادي

 

[1] مونوغرافية إقليم صفرو، المندوبية السامية للتخطيط المديرية الجهوية فاس مكناس.